الاستسلام الحق هو الإذعان لحكم الله ورسوله.
بإيمان تام، ويقين أكيد، ورضا نفس، ودون تردد.
الإيمان بأن حكم الله فوق كل أمر، فلا يعلو عليه شيء، وكذلك ما ثبت من حكم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
واليقين بأن هذا الأمر وحده هو الحق والعدل، دون كلام أي من الإنس والجن.
والرضا به لأنه هو المترتب على الإيمان الصادق والأكيد، عملاً لا قولاً وحده.
ودون تردُّد في تنفيذه أو التفكر بغيره، فهو الملائم للقلب المؤمن المفعم بحب اتباع أمر الله ورسوله، بل لا يجد فيه مكاناً لغيره، ولا يفرح إلا به، ولا ينفذ غيره بقدر المستطاع.
وهو الملائم لما يفهم من آي الذكر الحكيم: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65]
أي: لا يجدونَ في أنفسِهم وقلوبِهم شكًّا أو ضِيقاً ممّا حكمتَ به، فانقَادوا إلى حكمِكَ وأذعنوا له ظاهراً وباطناً، وسلَّموا بذلك تسليماً كلِّياً من غيرِ مُمانعةٍ ولا منازعة. وكما جاءَ في الحديث الشريف الذي وثَّقَ رجالَهُ ابنُ حجر في الفَتح: "لا يُؤمِنُ أحدُكمْ حتَّى يَكونَ هَواهُ تَبَعاً لِمَا جِئتُ به".
وقد أثنى الله على عبده وخليله إبراهيم لأنه استسلم لحكمه دون اعتراض أو تلكؤ، فقال عزَّ من قائل: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: 131]
فقد أمرهُ اللهُ بالإخلاصِ والاستسلامِ له، والانقيادِ لأوامرِه، فأجابَ إلى ذلك، وأطاعَ وأخلصَ على أحسنِ ما يَكون، مُفَوِّضاً أمرَهُ كلَّهُ إلى الله.
وعندما عاتب الله نبيَّه نوحًا عليه الصلاة والسلام لأنه قال عن ابنه الكافر إنه من أهله، استجاب لربه واستغفر، واستكان واستسلم ولم يتكبر، وطلب منه المغفرة على هذا التصرف. {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة هود: 47].
وقد كانَ الأنبِياءُ صلوات الله وسلامه عليهم، يسارِعونَ في عملِ الطَّاعاتِ وأنواعِ القرُبات، حبًّا في اللهِ وما عندهُ من الثواب، وخوفًا ورهبةً من نقمتهِ وعذابه، وكانوا مُتضرِّعين إلى ربِّهم، مؤمنين مُخبِتين، كما في قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء: 90]
فمن استجاب لربه وأسلم لحكمه وحكم رسوله، فهم المفلحون والفائزون، ومن أبى فلهم عاقبة السوء، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: 51].
أي: إنَّما المؤمنونَ الصَّادقون في إيمانِهم، إذا دُعُوا إلى حُكمِ اللهِ وقضاءِ الرسولِ بينهم، استجابوا لنداءِ الحقِّ وقالوا: سمعنا كلامَ الله وأطعنا حُكمَه. فأولئك هم السُّعداءُ الفائزون.
وهكذا يكون الاستسلام الحق... الذي به يحوز المرء مكانة سامية عند ربِّ العباد، ولا يؤتاها إلى الأنبياء والأولياء وأصحاب القلوب العامرة بالإيمان، الذين يعيشون بالله ولله، ولا يفكرون بغير عزَّة دين الله، ولهذا كان من تعليم رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام أمته أن يدعوا بدعوات تلائم هذا الإيمان الكامل، والاستسلام الحق.
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في أحد أدعية النوم، قبل أن يغمض المرء عينيه وينام، كما في الصحيحين وغيرهما: "اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوضتُ أمري إليك، ووجهتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك...".
ومن أدعية الاستفتاح التي كان يقولها عليه الصلاة والسلام في تهجده: "... اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت...". أخرجه الشيخان وغيرهما.
ومن أدعية السجود: "اللهم لك سجدت، وبكَ آمنت، ولك أسلمت". رواه مسلم وغيره.
وغير ذلك مما يناسبه.