أين من يبحث عن الحق في هذا العالم المتلاطم بالأفكار والنظريات المتباينة والنظم ووجهات النظر المختلفة، وكيف يعرف المرء أنه أصاب الحق، فما الموازين التي سار عليها، وما هي الضوابط والقواعد التي يُعرَف أنها تؤدي إلى الحق؟
من المؤكد أن الباحث عن ذلك سيصطدم بعقبات لا يعرف كيفية فكها أو التغلب عليها، لأنه لا ميزان بشريٌّ متفق عليه بين المفكرين والعلماء يرسم لهم منهجًا يؤدي إلى لحق، في المشكلات والمسائل والأمور الاجتماعية والإنسانية عامة، ولذلك تختلف كثير من القوانين والأنظمة واللوائح بين بلد وآخر في الأمور نفسها، فكل يقنِّن ما يظن أنه الحق، أو ما يغلب على ظنه في ذلك، وهو لا يعرف أسرار كل الأمور والموضوعات، أو ما يليها وما يحيط بها، فيتجاوز شيئًا، ويتأول أشياء، ويقول: هذا هو الحل.. وهذا هو الحق. وبعد تجارب وتعقيبات تعدَّل أو تغيَّر أو تلغى.. وهكذا.
لكن الحلَّ في كتاب الله تعالى {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [سورة الأنعام: 38]، الميزان العدل الذي لا باطل فيه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت: 42]، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [سورة النساء: 82]، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الحسن أو الصحيح: "تركتُ فيكم أمرين، لن تضلُّوا ما تمسَّكتُمْ بهما: كتابَ اللَّهِ وسنةَ رسوله"، ثم في إجماع العلماء المسلمين، والقياس على ما هو مثله أو شبيه به.
ولا يبُتغى بهذا مصلحة خاصة، ولا قانون دولة ومقصود جماعة، فلا أهواء ولا مصادر بشرية تقف عائقًا أمام النظر في الحق..
فالطرق التي تؤدي إلى الحق وضوابطه موجودة كاملة في الإسلام، دين الله الحق، فهو الميزان الذي يُستخلص منه الحكم الحقُّ في كلِّ ظرف، ولكلِّ مسألة ومشكلة. فلا خوف على الوسائل والضوابط التي يوصل بها إلى الحق، فالقرآن موجود، والسنة موجودة، وموازينهما مفتوحة لكل أحد.
وهذه الأمة شاهدة على جميع الأمم، لأنها أمة التوحيد، وقد اختارها الله لأجل ذلك، ونسخ ما سبق من شرائع وأديان؛ فعندها يكون الحق.
يقول الحقُّ سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...} [سورة آل عمران: 110].
فخيرية هذه الأمة مرتبطة بالأمر بالحق، والنهي عن الباطل..
ويقول سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الحج: 78].
هو اجتباكم.. فقد اختاركم لدينه من بين سائرِ الأمَم، وشرَّفكم بأكملِ شرع، وخصَّكم بأفضلِ رسول، وما جعلَ عليكم في الدِّينِ من ضِيقٍ ومشَقَّة، فلم يُكلِّفْكم بما لا تُطيقون، وإذا شقَّ عليكم أمرٌ منه في ظروفٍ تَطرأُ عليكم، فقد جعلَ لكم في ذلك فرَجًا ومَخرَجًا، ووسَّعَ عليكم كما وسَّعَ مِلَّةَ أبيكم إبراهيم..
ويقول أيضًا جلَّت حكمته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة: 143].
وكذلكَ جعلناكمْ – يا أمَّةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم- خيارَ الأُمم، لتَكونوا شهداءَ عليهم يومَ القيامة، بأنَّ الله أرسلَ الرسلَ إليهم فبلَّغوا ونصَحوا، ولأنَّ دينَكم هو الحقُّ من بينِ أديانِ الأممِ ومذاهبِها؛ فقد وجَّهكمُ اللهُ إلى قِبلةِ إبراهيمَ أبي الأنبياء، وخصَّكم بأكملِ الشرائع، وأقومِ المناهج، وأوضحِ المذاهب. ثمَّ يكونُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم يومَ القيامة، بأنه بلَّغكم رسالةَ ربِّه.