الحمدُ لله الذي هدَى، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ المصطفى، وعلى الآلِ والأصحابِ ومن به اقتدَى، وبعد:
فقد وفقني الله تعالى للاستدراك على تفسير (التحرير والتنوير) للعلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمهُ الله (ت 1394 هـ)، وهو تفسيرٌ موسَّع، من أجلِّ التفاسيرِ الحديثةِ وأبرزها، وفيه فوائدُ غزيرة، تدلُّ على ثقافةِ المفسِّرِ وعلمهِ الواسع. وكنت أحتفظُ ببعضها لإطلاعِ القارئ عليها أيضًا، فإنها تثير طلبة العلم، وتبعثُ على النشاطِ والمتابعة، أدعو الله تعالى أن ينفعَ بها.
××× ××× ×××
1- {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [سورة البقرة: 45].
الأمرُ بالاستعانةِ بالصبر؛ لأن الصبرَ ملاكُ الهدى، فإن مما يصدُّ الأممَ عن اتباعِ دينٍ قويمٍ إلفَهم بأحوالهم القديمة، وضعفَ النفوسِ عن تحملِ مفارقتها، فإذا تدرَّعوا بالصبرِ سهلَ عليهم اتباعُ الحق.
2- {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [سورة البقرة: 69].
احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع - وهو شدة الصفرة - لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالباً، فأكده بفاقع، والفقوع خاص بالصفرة، كما اختص الأحمر بقان، والأسود بحالك، والأبيض بيقق، والأخضر بمدهامّ، والأورق بخطباني، نسبة إلى الخُطبان - بضم الخاء، وهو نبت كالهليون -، والأرمك، وهو الذي لونه لون الرماد... والنصوع يعم جميع الألوان، وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر.
3- {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [سورة البقرة: 92].
القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم، بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات، نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة، فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات.
4- {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [سورة البقرة :102].
وأما ما يلزم في المسحور فخوَر العقل، وضعف العزيمة، ولطافة البنية، وجهالة العقل. ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة، ومن يتعجب في كل شيء.
وبابل بلد قديم من مدن العالم، وأصل الاسم باللغة الكلدانية (باب إيلو) أي: باب الله، ويرادفه بالعبرانية (باب إيل). وهو بلد كائن على ضفتي الفرات، بحيث يخترقه الفرات، يقرب موضعه من موقع بلد الحلَّة الآن، على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم.
5- {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [سورة البقرة:132].
وبنو إبراهيم ثمانية:
إسماعيل، وهو أكبر بنيه، وأمه هاجر.
وإسحاق، وأمه سارة، وهو ثاني بنيه.
ومديان، ومدان، وزمران، ويقشان، وبشباق، وشوح، وهؤلاء أمهم قطورة، التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة.
وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة، سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مَدين أصحاب الأيكة، وأن موسى عليه السلام لما خرج خائفاً من مصر نزل أرض مديان، وأن يثرون أو رعوئيل (وهو شعيب) كان كاهن أهل مدين .
6- {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ} [سورة البقرة: 140].
الأمة إذا انغمست في الجهالة وصارت عقائدها غروراً ومن دون تدبر، اعتقدت ما لا ينتظم مع الدليل، واجتمعت في عقائدها المتناقضات.
7- {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [سورة البقرة: 203].
{وَاتَّقُواْ اللّهَ}: وصية جامعة للراجعين من الحج، أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم، ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية، فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغِيرون ويفسدون، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان.
8- {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [سورة البقرة: 230].
حكمة هذا التشريع العظيم: ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم، وجعلهن لُعباً في بيوتهم، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة، والثانية تجربة، والثالثة فراقاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر: فكانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عمداً. فلذلك قال له الخضر في الثالثة: {هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [سورة الكهف: 78].
9- {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [سورة البقرة: 272].
الهُدى هنا بمعنى الإلجاء، لحصول الهدي في قلوبهم، وأما الهُدى بمعنى التبليغ والإرشاد، فهو على النَّبِي، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
10- {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ} [سورة البقرة: 286].
لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله (ربَّنا)، إمّا لأنّه تكرّر ثلاث مرات، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات، إلاّ في مقام التهويل، وإمّا لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله {رَبَّنَا} فروع لهذه الدعوات الثلاث، فإذا استجيب تلك حصلت إجابة هذه بالأَولى.
11- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب} [سورة آل عمران: 14].
التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات.
12- {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [سورة آل عمران: 44].
كان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام، وجعل اليهودُ الاقتراعَ بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المِدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخير. وليس هذا من شعار الإسلام، وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلاّ مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات، وتفصيله في الفقه.
13- {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين} [آل عمران: 136].
سمي الجزاء أجرًا لأنه كان عن وعدٍ للعامل بما عمل.
14- {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً} [آل عمران: 154].
الأمَنةُ ـــ بفتح الميم ـــ: الأمن، والنعاس: النوم الخفيف، أو أوّل النَّوم، وهو يزيل التعب ولا يغيّب صاحبه، فلذلك كان أمَنة، إذ لو ناموا نوماً ثقيلاً لأُخذوا، قال أبو طلحة الأنصاري، والزبير، وأنس ابن مالك: غَشيَنا نعاس حتَّى إنَّ السيف ليسقط من يد أحدنا. وقد استجدُّوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأنّ الحزن تبتدىء خفَّته بعد أوّل نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها.
15- {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [آل عمران: 170].
في هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرُّها من أحوال الذين يهمُّهم شأنهم في الدنيا، وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله. وقد يكون خاصّاً الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها، وقد يكون عامّاً لجميع الأحوال؛ لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة، على أنّ الإمام الرازي حَصر اللذّة الحقيقية في المعارف. وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء، ولو كانت سيئة.
16- {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} [سورة آل عمران: 186].
العزم: إمضاء الرأي، وعدم التردد بعد تبيين السداد.
17- {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [سورة النساء: 148].
رخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيّء ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به.
18- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة: 51].
اتفق علماء السنَّة على أنَّ ما دون الرضا بالكفر وممالأتهم عليه من الولاية لا يُوجب الخروج من الربقة الإسلاميّة، ولكنّه ضلال عظيم، وهو مراتب في القُوّة، بحسب قوّة الموالاة، وباختلاف أحوال المسلمين.
19- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ} [سورة المائدة: 87].
في الحديث الصحيح، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمّا أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس منّي".
والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس. أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام، ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به، بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس.
وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى، من عبادة أو شغل بعمل نافع، وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّةٍ من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلّع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع. وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصّة أبي الدحداح، حين حَلّ رسولُ الله وأبو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم.
وعن الحسن البصري، أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي وأصحابه، فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام، دجاج مسمَّن وفالَوْذ، فاعتزل فرقد ناحية، فسأله الحسن: أصائم أنت؟ قال: لا، ولكنّي أكره الألوان؛ لأنّي لا أؤدّي شكره، فقال له الحسن: أفتشرب الماءَ البارد؟ قال: نعم، قال: إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ.
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة، بل أن يتركه تشديداً على نفسه، سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به. ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام، فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها، وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة. ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال: الحلال عليّ حرام، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال، إلاّ الزوجة، فإنّها تحرم عليه...
20- {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [سورة المائدة: 93].
قد يَلُوح ببادىء الرأي أنّ حال الذين توُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقاً بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحداً بعمل لم يكن محرّماً من قبل فعله، وأنّه لا يؤاخذ أحداً على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب، حريصين على كمال الاستقامة، فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان، خَشوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك، أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم، كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [سورة النساء: 95]، فقال: يا رسول الله، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر؟ فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [سورة النساء: 143]. وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، قال ناس: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة: 143]، أي: صلاتَكم. فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه، وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.
21- {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون} [سورة الأنعام: 100].
كان دين العرب في الجاهليّة خليطاً من عبادة الأصنام، ومن الصّابئيّة عبادة الكواكب، وعبادة الشّياطين، ومجوسيّة الفرس، وأشياء من اليهوديّة، والنّصرانيّة، فإنّ العرب لجهلهم حينئذٍ كانوا يتلقّون من الأمم المجاورة لهم والّتي يرحلون إليها عقائد شتّى، متقارباً بعضها ومتباعداً بعض، فيأخذونه بدون تأمّل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإنّ العلم الصحيح هو الذائد عن العقول من أن تعشِّش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهليّة عبادة الأصنام، وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجنّ والشّياطين ونحو ذلك. فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ، وينتسبون إليها، ويتّخذون لها المـَعاذات والرُّقَى، ويستجلبون رضاها بالقرابين، وترك تسمية الله على بعض الذبائح. وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء، وأنّ الشاعر له شيطان يوحي إليه الشّعر، ثمّ إذ أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلَّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى، فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله مِن أمّهات سَرَوات الجنّ.
22- {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون} [سورة الأنعام: 116].
الأرض يطلق على جميع الكرة الأرضية، الّتي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنّبات، وهي الدّنيا كلّها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضيّة معهودٍ بين المخاطَبين، وهو إطلاق شائع، كما في قوله تعالى {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} [سورة الإسراء: 104] يعني الأرض المقدّسة، وقولِه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [سورة المائدة: 33] أي: الأرض التي حاربوا الله فيها. والأظهر أنّ المراد في الآية المعنى المشهور، وهو جميع الكرة الأرضية، كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل: أريد بها مكّة؛ لأنّها الأرض المعهودة للرّسول عليه الصلاة والسلام. وأيّاً ما كان، فأكثر من في الأرض ضالّون مضلّون، أمّا الكرة الأرضية فلأنّ جمهرة سكّانها أهل عقائد ضالّة، وقوانين غير عادلة... وسبب هذه الأكثرية أنّ الحقّ والهدى يحتاج إلى عقولٍ سليمة، ونفوس فاضلة، وتأمّل في الصّالح والضارّ، وتقديمِ الحقّ على الهوى، والرشدِ على الشّهوة، ومحبّة الخير للنّاس، وهذه صفات إذا اختلّ واحد منها تطرّق الضلال إلى النفس بمقدار ما انثلم من هذه الصفات. واجتماعها في النفوس لا يكون إلاّ عن اعتدال تامّ في العقل والنفس، وذلك بتكوين الله وتعليمه، وهي حالة الرسل والأنبياء، أو بإلهام إلهي، كما كان أهل الحقّ من حكماء اليونان، وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية، وقد يسمّونها الذوق، أو عن اقتداء بمرشد معصوم، كما كان عليه أصحاب الرّسل والأنبياء وخيرة أممهم.
23- {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. [سورة الأنعام: 121]
في حكم التسمية على الذبيحة: مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال: أحدها أنّ المسلم إن نسي التسمية على الذبح تؤكل ذبيحته، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل، وهذا مثل ما يفعله بعض الزنوج من المسلمين في تونس، وبعض بلاد الإسلام، الذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ، ولا يسمّون اسم الله عليها، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه، وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر، فهذه ذبيحة لا تؤكل.
24- {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [سورة الأعراف: 27].
في الآية إشارة إلى أنّ الشّيطان يهتم بكشف سوأة ابن آدم؛ لأنّه يسرّه أن يراه في حالة سوء وفظاعة.
... {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}: الأجسام الخفيّة عن الحواس، وهي المسمّاة بالمجرّدات في اصطلاح الحكماء، ويسمّيها علماؤنا الأرواح السفليّة.
25- {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [سورة الأعراف: 138].
القوم هم الكنعانيون، ويقال لهم عند العرب: العمالقة، ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين.
26- {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [سورة الأعراف: 145].
{بِأَحْسَنِهَا} وصف مسلوب المفاضلة، مقصود به المبالغة في الحُسن، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام، أي بالأحسن الذي هو لها، وهو جميع ما فيها، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن، بل كله مرتبة واحدة فيما عيِّن له، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض، كالمندوب بالنسبة إلى المباح، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكوراً في الشريعة، فكان ذلك من جملة الأخذ بها، فقرائن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية، والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء.
27- {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [سورة الأنفال: 48].
المقصود من ذكر العقبين تفظيع التقهقر؛ لأنّ عقب الرجل أخسُّ القوائم، لملاقاته الغبار والأوساخ.
28- {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة:31].
... وإنما خُصَّ الحَبرُ بعالمِ اليهود؛ لأن عظماءَ دينِ اليهوديةِ يشتغلون بتحريرِ علومِ شريعةِ التوراة، فهم علماءُ في الدين، وخُصَّ الراهبُ بعظيمِ دينِ النصرانية؛ لأن دينَ النصارى قائمٌ على أصلِ الزهدِ في الدنيا، والانقطاعِ للعبادة.
29- {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} [سورة التوبة: 87].
الخوالف جمع خالفة، وهي المرأة التي تتخلّف في البيت بعد سفر زوجها، فإن سافرت معه فهي الظعينة، أي: رضوا بالبقاء مع النساء.
30- {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [سورة يونس: 10].
لا يقالُ للمخلوقِ هو الربُّ معرَّفاً، إنما يقال: ربُّ كذا، مضافاً، لأن الألفَ واللامَ للتعميم، وهو لا يملكُ الكلّ.
31- {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوب} [سورة هود: 71].
...لأنّها ما ضحكت إلاّ بعد أن بشّرها الملائكة بابن، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى. والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن، وذلك أدخل في العجب؛ لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالباً إلاّ معلولين، ولا يولد لهم في الأكثر، ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم، بله أولاد أولادهم.
32- {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُون} [سورة يوسف: 16].
إنما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السّلام، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد. ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة. وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكماً، وإنما يناط الحكم بالبينة.
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: أما تراها تبكي؟ فقال: قد جاء إخوة يوسف عليه السّلام أباهم عشاء يبكون وهم ظلَمة كذَبَة، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق.
قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا يدلُّ على أن بكاء المرء لا يدلُّ على صدق مقاله؛ لاحتمال أن يكون تصنُّعاً. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك، ومنهم من يقدر. قلت: ومن الأمثال: "دموع الفاجر بيديه"، وهذه عبرة في هذه العبرة.
33- {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [سورة يوسف: 43].
التعريف في {الْمَلِكُ} للعهد، أي: ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكاً ولم يسمه فرعون؛ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكاً لمصر أيامَ حَكَمَها الهِكسوس، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البَدو. وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح عليه السّلام.
34- {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [سورة الرعد: 23].
الواو في {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} واو المعية، وذلك زيادة الإكرام، بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها، فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لَحِق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقُوا هم به، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [سورة الصافات: 22] الآية؛ لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذابٌ مضاعف.
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح، أو خلف صالح، أو زوج صالح، ممن تحققت فيهم هذه الصلاة، أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الطور: 21]. والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب، كما قالوا الأبوين.
35- {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِين} [سورة النحل: 80].
القباب من أدم، والخيام من منسوج الأوبار والأصواف والأشعار، وهي ناشئة من الجلد، لأن الجلد هو الإهاب بما عليه، فإذا دُبغ وأزيل منه الشّعر فهو الأديم.
36- {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين}. [سورة النحل: 103].
اللسان: الكلام، سمي الكلام باسم آلته.
37- {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [سورة الكهف:9].
الكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعًا فهو غار.
38- {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى . وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} [سورة طه: 118-119].
جُمع له في هذا الخبر أصولُ كفاف الإنسان في معيشته، إيماء إلى أن الاستكفاء منها سيكون غاية سعي الإنسان في حياته المستقبلة، لأن الأحوال التي تصاحب التكوين تكون إشعاراً بخصائص المكوّن في مقوماته، كما ورد في حديث الإسراء من توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار اللبن على الخَمر، فقيل له: لو اخترت الخمر لغَوَتْ أمَّتك.
39- {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [سورة الفرقان: 53].
البحر: الماء المستبحر، أي الكثير العظيم.
40- {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [سورة القصص: 20].
الظاهر أن أقصى المدينة هو ناحية قصور فرعون وقومه، فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات، لتكون مساكنهم أسعد بخروجهم عند الخوف، وقد قيل: الأطراف منازل الأشراف.
41- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُون . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [سورة الروم: 55-56].
في هذا أدب إسلامي، وهو أن الذي يسمع الخطأ في الدين والإيمان لا يقرُّه، ولو لم يكن هو المخاطَب به.
42- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [سورة الأحزاب: 7].
هذا الميثاق مجمل هنا بيَّنته آيات كثيرة. وجُماعها: أن يقولوا الحق، ويبلِّغوا ما أُمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين، ولا خشيةٍ منهم، ولا مجاراةٍ للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلاله. وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر.
43- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [سورة الأحزاب: 53].
في هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعدياً على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل؛ لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى هنا: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ}، ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزَّر على ذلك، بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه، بعد توقيفه على الخفيّ منه، وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه.
44- {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [سورة فاطر: 11].
غلب في هذه الأجيال أن يكون الموت بين الستين والسبعين فما بينهما، فهو عُمر متعارف، والمعمَّر الذي يزيد عمره على السبعين، والمنقوص عمره الذي يموت دون الستين. ولذلك كان أرجح الأقوال في تعمير المفقود عند فقهاء المالكية هو الإِبلاغ به سبعين سنة من تاريخ ولادته.
45- {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب} [سورة فاطر: 35].
من فضل الله أن جعل لهم الجنة جزاء على الأعمال الصالحة؛ لأنه لو شاء لما جعل للصالحات عطاء، ولكان جزاؤها مجرد السلامة من العقاب، وكان أمر مَن لم يستحق الخلود في النار كفافاً، أي: لا عقاب ولا ثواب، فيبقى كالسوائم.
46- {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِين} [سورة الصافات: 113].
فيه تنبيه على أن الخبيث والطيّب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر، فقد يلد البَرُّ الفاجرَ والفاجرُ البرَّ، وعلى أن فساد الأعقاب لا يُعدُّ غضاضة على الآباء، وأن مناط الفضل هو خصال الذات، وما اكتسب المرء من الصالحات، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال، وباعث على الاتّسام بفضائل الخِلال، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم، وإنهّا مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإِسلام وأنهم الأوْلى بالمسجد الحرام.
47- {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون} [سورة الصافات: 147].
الظاهر أن الرسول إذا بُعث إلى قوم مختلطين بغيرهم أن تعمَّ رسالته جميعَ الخليط؛ لأن في تمييز البعض بالدعوة تقريراً لكفر غيرهم، ولهذا لما بعث الله موسى عليه السلام لتخليص بني إسرائيل دعا فرعون وقومه إلى نبذ عبادة الأصنام، فيحتمل أن المقدَّرين بمائة ألف هم اليهود، وأن المعطوفين بقوله {أَوْ يَزِيدُونَ} هم بقية سكان نينوَى. وذُكر في كتاب يونس أن دعوة يونس لمّا بلغت ملكَ نينوَى قام عن كرسيه، وخلع رداءه، ولبس مِسحاً، وأمر أهل مدينته بالتوبة والإِيمان.. الخ. ولم يذكر أن يونس دعا غير أهل نينوَى من بلاد أشور مع سعتها.
48- {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَاب} [سورة ص: 20].
عن أبي الأسود الدؤلي: {فَصْلَ الْخِطَاب} هو قولُه في خطبه: "أما بعد"، قال: وداود أول من قال ذلك. ولا أحسب هذا صحيحاً؛ لأنها كلمة عربية، ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية. وسميت تلك الكلمة (فصل الخطاب) عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود، فالفصل فيه على المعنى الحقيقي، وهو من الوصف بالمصدر، والإِضافة حقيقية. وأول من قال "أما بعد" هو سحبان وائل خطيب العرب.
49- {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [سورة الزمر :4].
... فتكون {لَوْ} هنا هي الملقبة (لو) الصهيبية، أي: التي شرطها مفروض فرضاً على أقصى احتمال، وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه". فكان هذا إبطالاً لما تضمنه قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر: 3].
50- {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم} [محمد: 22-23].
في الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما.
51- {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [سورة التغابن: 14].
العفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها، ولو مع توبيخ. والصفح: الإِعراض عن المذنب، أي: ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ. والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته.
52- {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه} [سورة الحاقة: 32].
الذَّرع كيلُ طولِ الجسم بالذراع، وهو مقدار من الطول مقدَّر بذراع الإِنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء، مثل الذراع، والأصبَع، والأنملة، والقَدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء، مثل الشِبْر، والفِتْر، والرَّتَب - بفتح الراء والتاء-، والعَتَب، والبُصْم، والخُطوة.
53- {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [سورة نوح: 22].
أي: كبيراً جداً، وهو وارد بهذه الصِّيغة في ألفاظ قليلة، مثل: طُوَّال، أي: طويل جداً، وعُجَّاب، أي: عجيب، وحُسَّان، وجُمَّال، أي: جَميل، وقُرَّاء: لكثير القراءة، ووُضَّاء، أي: وضِيء، قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
54- {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة} [سورة القيامة: 14].
أي: مبصر، والهاء للمبالغة... وتكون تعدية {بَصِيرَة} بـ {عَلَى} لتضمينه معنى الرقيب.
55- {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة النبأ: 40].
المرء اسم للرجل، إذ هو اسم مؤنثُه امرأة. والاقتصار على المرء جَريٌ على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب؛ لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارجَ البيت.
56- {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَة} [سورة عبس: 13].
قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب (سِفْر) بكسرِ السين، وللكاتب (سَافر)؛ لأن معناه أنه يبيِّن الشيءَ ويوضِّحه، يقال: أسفرَ الصبح، إذا أضاء، وقاله الفراء.
57- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه} [سورة الانشقاق: 10].
أي: يُعطَى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله؛ تحقيراً له، ويناوَلُ له من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه، بحيث لا ينظر مُناوِلُه كتابَه إلى وجهه.