[هذا مختصر مقال نما بين جوانحي سنوات، يخبو تارة ويثور تارة... ثم لم يهدأ أخيرًا. وقد حاولتُ أن أقتنع بالإشكال كما هو فلم ينفع، وبقيت الغيرة على كلام الله تلازمني حتى أخرجته. وقد يكون لآخرين مقال في مقالي.. والمهم أن أبرئ الذمة، وأن أبرز ما أظنه حقًّا.. والله المستعان].
الحمد لله العليم الحكيم، والصلاة والسلام على النبي المعصوم، وعلى الآل والصحب أجمعين، وبعد:
فإن الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله (ت 310 هـ) من أعلام الدنيا، وهو إمام في التفسير خاصة، وكل من أتى بعده من المفسرين استفاد منه، فإن لم يستفد من تفسيره مباشرة، استفاد ممن استفاد منه!
وكنت أنظر كثيرًا في تفسير هذا الإمام الجليل، للحاجة إليه، وللاستفادة منه..
وقد لفت نظري، منذ سنوات، تكراره لجملة تسبق تفسير آيات، كقوله: "يقول تعالى ذكره"، ثم يورد تفسير الآية. أو عبارات قريبة منه.
وهي كثيرة، بل كثيرة جدًّا!!
وهذه أمثلة منها، من سورة البقرة:
- يقول في تفسير الآية (147) منها: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}:
"يقول تعالى ذكره: اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لك اليهود والنصارى".
ثم يقول: "يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين".
- ويقول في تفسير الآية (168) من السورة: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}:
"يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به...".
- ويقول في الآية (170): {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}:
"يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا...".
- وفي الآية (253): {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يقول:
"يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض...".
وهكذا.. حتى آخر تفسيره، وليس في أوله وحده، أو في سورة منه.
فيقول في الآية الأولى من سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أستجير {بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ}...".
وبعبارات أخرى له كما قلت، مثل: "يقول عزَّ ذكره"، ولفظ: "يقول" فقط.
بينما يقول في عبارات أخرى لا غبار عليها: "يعني جلَّ ثناؤه بذلك"، و"يعني تعالى ذكره بقوله..".
فهل يجوز مثل قوله الأول، وهو أن يقول لكلامه الشخصي، وتفسيره، وبيانه: "يقول الله تعالى ذكره"؟
فهذا كلامه، وليس كلام الله تعالى!
التفسير كلام المفسر، وليس من قول الله سبحانه!
كلام الله تعالى يخص ذاته سبحانه، وهو وحي، وليس مخلوقًا أصلًا، فكيف يقال للتفسير إنه قول الله تعالى؟!!
ثم إن هذا التفسير قد يكون صوابًا أو يكون خطأ، وقد استدرك كثير من المفسرين على الإمام الطبري، ولم يأخذوا ببعض اختياراته، مثل ابن كثير نفسه!
فكيف يورد هذا الكلام وأنه قول الله تعالى؟!
لا شك أن الإمام الطبري يعني تأويل الآية وتفسيرها، ولا يعني أنه كلام الله تعالى بذاته أبدًا، ولكن التعبير به هو الخطأ، ولا شكّ أنه قال ذلك في تساهل ودون تمحيص، ولو روجع فيه لرجع.
فإنه يقال عند التفسير، كما أوردنا له عبارات أخرى: "يعني جلَّ ثناؤه بذلك"، و"يعني تعالى ذكره بقوله..".
أو يقول: يقول الله تعالى ما معناه، أو ما تفسيره، أو عبارة (أي)، وما إلى ذلك، مما يفهم أنه تفسير لقول الله تعالى، وليس كلامَ المفسِّر.
فالتفسير شيء، والقرآن شيء آخر.
التفسير شرح للقرآن، وليس هو نفسه حتى يقال: "يقول تعالى ذكره".
وحتى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم منعوا رواية نصه بالمعنى، إلا بشروط، فإذا دُفع الراوي أو الناقل إلى حكاية معناه، أو لم يتأكد من لفظه، قال: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فلا يجوز أن تقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم تورد الحديث بمعناه وليس بلفظه، فالذي أوردتَهُ ليس من لفظه عليه الصلاة والسلام، بل هو من لفظك، وإنما أردتَ أن تبيِّن معناه وتشرحه، فتقول إذًا: "وشرح الحديث هو كذا"، أو "معنى الحديث كذا".
وبعض الأحاديث لا يجوز تغيير أي كلمة منها، كالتشهد، وما ورد في أسماء الله تعالى وصفاته..
فكيف بكلام الله تعالى؟
فلا يجوز أن تؤلف كلامًا من عندك وتقول: "قال الله تعالى"، ولو كان قولًا صحيحًا، ولو كان من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون قرآنًا أُنزل عليه، أو حديثًا قدسيًّا نسبه إلى الله تعالى.
فهذا مما لا يستساغ قوله أبدًا، والعبارات الواردة في ذلك ليست سليمة، ولا مقبولة، ولا تقال إلا عند النقل، توثيقًا له.
وهو خطأ عقدي، أو يقال عند حسن الظن بصاحبه لعدم تعمده: إنه خطأ أدبي.
وقد يتكرر مثل هذا ربما سهوًا عند مفسرين آخرين، كقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية (31) من سورة الأعراف: "وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ}: يقول الله تعالى: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلالٍ أو حرام...".
وقد ترددت كثيرًا في نقد الإمام ابن جرير رحمه الله في هذا الجانب، للفارق بين إمام في علمه وطالب علم ينقل منه، ولكن قول الحق أولى، وتصويب الأخطاء في الدين والعقيدة خاصة واجب... فكل يصيب ويخطئ.
والله الهادي.
××× ××× ×××
وقد عُرض هذا المقال على بعض الإخوة قبل نشره، فذكروا أن قول الإمام الطبري في ذلك جائز، وأن صحابة وعلماء كثيرين استعملوا كلمة (يقول) بمعنى (يعني)، وأوردوا أمثلة عديدة من التفاسير على ذلك، وفيها لفظة (يقول) فقط، دون التعرض إلى غير ذلك مما أوردت.
وبغضِّ النظر عن المعنى اللغوي لـكلمة (يقول)، فإن العلماء إذا استعملوها بالمعنى المذكور فهم أعلم، لكن يكون ذلك (تجاوزًا)، وليس حقيقة وجردًا وتحريرًا، ويبقى ما ذكرته من أمور أخرى واردًا في غير كلمة (يقول) وحدها، ولا أرى جواز قول: "يقول الله تعالى ذكره" ثم لا يكون القولُ كلامَ الله تعالى، بل يكون كلامَ بشر.
وكيف يفرِّق من لا يحفظ القرآن بين كلام الله وغير كلامه إذا جاءت قبله جملة: "يقول الله تعالى ذكره"؟ وخاصة إذا كان ذا ثقافة عادية، أو مقبلًا على العلم؟
وكيف إذا تُرجمت الجملة إلى لغات أخرى والقارئ غير عربي أو غير مسلم، لا يعرف لفظ القرآن أصلًا؟ ألا يظن أن ما ورد هو كلام الله وليس كلام البشر؟
وأين يبقى ما ذكرته من أن التفسير لو كان (خطأً) وقد سبقه قوله: "يقول الله تعالى ذكره"؟ فأين وكيف يكون الله تعالى قد قاله؟ أليس من غَيرة على هذا الأسلوب الذي يؤدي إلى تلك النتيجة القبيحة؟
وأين ما ذكره علماء الحديث من عدم جواز رواية كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه إلا بشروط قاسية؟ فكيف لا يجوز هذا لكلام الرسول ويجوز لكلام الله تعالى؟!
إنه غير مقبول ولا مرغوب، وإذا ورد مرات فيكون في حدود ضيقة، وقليلًا، يعني على غير القياس، وعلى غير الأصل، وقد يُقبَل (تجاوزًا)، وليس حقيقة كما قلت، فالحقيقة الأكيدة أن القول ليس قول الله تعالى، وأما إذا كان بمعناه فيبين قبله بما يدلُّ على ذلك، وليس باللفظ نفسه الذي يكون دالًّا على قول الله تعالى، منعًا للالتباس على الأقل، وتقديرًا وإكرامًا لما اختُصَّ الله به من ذلك، وهو أن يكون قولُه كلامَهُ حقًّا إذا قيل: "يقول الله تعالى".
وإذا قال شخص: "يقول الله تعالى ذكره" ونيَّته تفسير كلامه تعالى، لا إيراد كلامه سبحانه، فإنه يثبت ذلك كتابة، والنية وحدها لا تكفي. ويحكم على ما هو مكتوب وواضح، لا على ما نواه الشخص ولم يكتبه.
وكون بعض علمائنا الأفاضل قد نطقوا به لا يعني أنه حجة في الاستعمال بدون حرج، أعني في صحة التعبير بظاهر معناه اللغوي، فإنه يُنظَر إلى الاستعمال لا فيمن استعمله، ولا يبدو ظاهره مرغوبًا، وليس هو الأَولَى، بل الأفضل والصواب هو العودة إلى صحة الاستعمال، والجواز جانبٌ من الاستعمال لا يوافق السمع، ولا يُطمئن القلب.
والقارئ غير معتاد على أن (يقول) بمعنى (يعني)، فهذا يسبب التباسًا، ولكنه متعود على أنه إذا سمع أو قرأ: "يقول الله تعالى"، أن يرى بعده كلام الله تعالى بذاته، وليس كلام غيره.
وإذا جاز هذا في عادة الناس عندما ينقلُ بعضهم كلامَ بعض، فإنه لا يجوز في كلام الله تعالى. والله أعلم.