عندما يتلو المسلم كتاب ربِّه لا يحصِّلُ أجرًا فقط، بل يستفيد أيضًا، لدنياه وآخرته، فتتهذَّب نفسهُ، وتُشفى من أمراضها وأوضارها، وتنحلُّ عُقَدها. يقول ربُّنا الكريم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة الإسراء: 82].
أي: ننزِّل من القرآنِ ما يكونُ شفاءً وعلاجًا لأمراضِ النفسِ والقلب، من ضلالةٍ وجهالة، ووسوَسةٍ وشكّ، وزيغٍ وقلَق، وهَوًى وطمع، وانحرافٍ وزلل، فيُسَكِّنُ النفس، ويُطَمْئنُ القلب.
وهو رحمة، ففيه الإيمانُ الصحيح، والدَّليلُ إلى الحقّ، والثَّباتُ عليه، والرَّغبةُ في الخيرِ والعملِ الصَّالح، والتَّمهيدُ إلى رِضَى الله ودخولِ جنَّته. (الواضح في التفسير للكاتب).
فالقلب يطمئنُّ بتلاوة القرآن ويهدأ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: 28] فترتاح له النفوس المؤمنة، دون غيره من الأمور الدنيوية.
ومن أهمِّ ما يفيده المرءُ لنفسه ولمجتمعه هو العظة والعبرة التي يجنيها من قراءة القرآن، وهذا لا يأتي إلا من الفهم والتدبُّر في كتاب الله {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29].
أي: هذا كتابُ الله للناس، كثيرُ الخيرِ والمنفَعةِ لهم، في أمورِ دينِهم ودنياهُم، ليَتفكِّروا في آياتِهِ ويَتفهَّموا حِكَمَها وأسرارَها، وليتَّعظَ بها أصحابُ العقولِ النيِّرة.
فالمسلم يقرأ عاقبة أقوام سابقين عصوا الله ورسوله، وأبوا أن يؤمنوا ويطيعوا، فيعتبر ولا يعصي، حتى لا يغضب الله عليه، ولئلا يعاقَب في الآخرة. {...وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [سورة البقرة: 61].
كما يستفيد من الأمثال التي ضربها الله لبني آدم، فيقارن ويتفكر؛ ليسير على هدى واستقامة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ...} [سورة الحج: 73].
ولا ينسى قصة أصحاب البستان، الذين أقسموا ألا يطعموا منه فقيراً، فأهلكه الله وجعله كالزرع المحصود، فيعتبر القارئ، ولا ينسى الفقراء مما رزقه الله من مال ومتاع.
وفي آخر الآيات من القصة: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة القلم: 33].
أي: هكذا يكونُ العذابُ لمن خالفَ أمرَ اللهِ وكفرَ بنعمتِه، والعقوبةُ في الآخرةِ أشدُّ وأبقَى، ولو كانوا من أهلِ العلمِ والفهمِ لعَلِموا ذلك.
وإذا مرَّ بآيات النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ...} استمع وتدبَّر، ونظر في أمر الله فنفذه، فإن في ذلك خيراً لنفسه وللآخرين.
ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يتبع خطواته، ويعتبر مما جرى لأبينا آدم معه، وقد حلف له أنه ناصح له، فخدع آدم، وعوقب بالنزول من الجنة.
{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ...} [سورة الأعراف: 27].
ويعتبر من تقلبات أهل الكتاب وانحرافهم وقسوة قلوبهم بعد طول الأمد، فيتعوذ بالله من قلب لا يخشع، كما يتعوَّذ به سبحانه من أن يكون من الفاسقين.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد: 16].
وينظر في الثواب الذي أعدَّه الله لعباده المؤمنين الصالحين المتقين فيتبع خطواتهم.
{فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة: 85].
ويقرأ عن الجهاد وأجره الكبير، فيطلب من الله أن يكرمه بالشهادة في سبيله {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: 111].
ويقرأ الحثَّ على التوبة، فيتوب قبل أن يمرض أو يُقبض.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [سورة الزمر: 54].
ويبتعد عن النفاق والشرك الذي يبطل الأعمال كلها، ويجعل مصير صاحبها إلى النار.
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [سورة النساء: 116].
وينظر في الآداب والأخلاق الكريمة التي أثنى عليها ربُّ العزَّة فيتخلق بها، ويبتعد عن الفواحش والمنكرات التي تفسد المجتمع...
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل: 90].
ويقرأ عن تمجيد الربِّ نفسه وذكر عظمته، فيمجِّده ويسبِّحه ويعظِّمه..
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [سورة لقمان: 28].
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [سورة الإسراء: 44].
ويقرأ قوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [سورة البقرة :152].
فيذكره في أحيانه كلها ولا ينساه.
وينظر في كتاب ربِّه فيرى حثَّه على التفكر والاعتبار مما في خلق السماوات والأرض، فيتمثَّل قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران: 191].
وهكذا يكون المسلم.. يقرأ.. ويعتبر.. ويستفيد.. ويؤجر..