للأثرياء لغة لا أتقنها، ولذلك لا أزورهم، حتى لا أزعجهم بلغة العلم، ولا يزعجوني بلغة المال!
لكن الذي حدث أنني قمت بزيارة لأحد كبارهم، وكان ذلك رغماً عني، فقد جاء بأخ لي شقيق لي لم أره منذ ربع قرن كامل، فقدم إلى البلد الذي أقيم فيه بواسطته، ليراني فقط ثم يرجع، فكان علي أن أقدم له واجب الشكر على الأقل، ولو لم أطلب منه استقدامه، بل ما كنت أطلب منه ذلك ولو لم أره حتى وفاتي!
وبدا لي في الجلسة القصيرة أن أكافئه ببضاعتي وأرد له شيئاً من المعروف يكون له فيه أجر كبير، وسنَّة حسنة، فأقبلت إليه باشاً وقلت: جزاك الله خيراً على المكتبة التي أنشأتها أيها الشيخ، فلا شك أن الرواد يستفيدون منها، ولكن ما ميزة مكتبتكم بين المكتبات الموجودة في البلد؟
فعدد مناقبها، وذكر وظائفها، وأشار إلى الآلات الحديثة والسريعة التي اقتناها مما أفرزتها التقنية الحديثة للمكتبات ومراكز المعلومات، وبيَّن أسعارها الغالية، وما إلى ذلك...
فقلت: هذا شيء طيب تشكرون عليه، ويرتاح له المراجعون إن شاء الله، ولكن كنت أود أن تذكر لي الميزة التي تميَّزت بها مكتبتكم، مما لا يوجد منه في المكتبات الأخرى.
فصار يذكر مجموعات المخطوطات والكتب النادرة التي أحضرها، والدوريات القديمة والبرديات والوثائق التي قد لا يوجد في مكتبات أخرى...
وما إن بدأت بذكر سؤالي بصيغة أخرى حتى لا أحرجه، إذا به يخرج عن خُلقه ويرفع صوته ويقوم من مجلسه وهو غاضب، ويقول: أنت جعلت من المسألة ألف ليلة وليلة، حتى نام شهريار وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح، ليأتي مرة أخرى و...
فسكت، وعلمت أن بضاعتي غير مرخصة عنده، ولغتي غير مرحَّبٍ بها في مجلسه، وتجرَّعت كأس الصبر دقائق أخرى عنده لأجل شقيقي الحنون... وأجلت الحديث عن المشروع المقترح، ليكبر ويستقل، ويكون فيه خير أكثر، ويهب الله تنفيذه لمن أراد له مثوبة أكبر...
لقد أحببت أن اقترح عليه مشروع مكتبة خاصة بالقرآن الكريم، يمكن أن تسمَّى "دار المصاحف" يُجمع فيها ما يمكن من مخطوطا ت المصاحف الشريفة، وتصوير ما لا يمكن منها، ورقياً أو ميكروفيلمياً أو نسخًا على الأقراص المدمجة، ويدخل في المخطوط منها ما وجد على أوراق البردي، والجلود، والعظام، والأحجار، وقشور البيض، وما إلى ذلك...
إضافة إلى جمع طبعات المصاحف منذ بدء الطباعة حتى تاريخه، سواء كانت طبعات قيمة أم مزيفة، في الشرق أو الغرب، ولو نسخة واحدة من كل منها، ويكون هذا مهمة هذه المكتبة. ويمكن أن يكون هذا قسماً في مكتبة كبيرة.
وفائدة هذه المكتبة المتخصصة تاريخية توثيقية علمية، وهي مفيدة للعلماء والباحثين، في دراساتهم وبحوثهم القرآنية، وللرد على شكوك المشككين والمرجفين في شبهات عقيمة لهم حول تاريخ تدوين القرآن الكريم وأطواره.
وأزعم أنها إضافة إلى فائدتها العلمية المذكورة، ستكون تحفة إسلامية وسابقة ثقافية تراثية لا تقدَّر، ولا يجاريها متحف أو مكتبة في تخصصات أخرى، لمكانة القرآن الكريم أولاً، ولافتخار مسلمين وتباهيهم بما يملكونه أو يرثونه من مصاحف مخطوطة، أو أنواع وأشكال نادرة منها. ويكون من بينها ما لا يخطر على البال، فهناك مصاحف صغيرة جداً لا تتجاوز السنتمترَ الواحد!
وقد عرض أكبر مصحف في العالم في "معرض المصحف الشريف" الذي أقيم هذا العام (1429هـ) في طرابلس الغرب، الذي شارك في كتابته (58) خطاطاً، إلى جانب عرض مصحف ذهبي يزن (500 كغ) من الذهب! كما عرضت نسخة منه صنعت في روسيا من الذهب الخالص بنسبة 99.9% ومحفورة على 162 صفحة، وتبلغ قيمتها المالية نحو (5.6) مليون دولار! ولعله السابق أو غيره.
وهناك معارض أخرى للمصاحف تنظم، في بلدان إسلامية وغير إسلامية، فقد نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض عرضًا خاصًّا بالمصاحف النادرة منذ سنوات قليلة، كما نظمت اليمن هذا العام (1429هـ) معرضًا لصور نوادر المخطوطات القرآنية الموجودة منها في اليمن وحدها، ابتداء من القرن الهجري الأول، مما كان قبل التنقيط، وما بعده.
ولعل القارئ يستصعب جمع هذه المخطوطات، التي لا يتخلى عنها أصحابها، أو هي غالية جداً بعضها لا يقدَّر بثمن.
وأقول إن هذا المشروع طيب مبارك، هو الآخر لا يقدَّر بمال، والعزم عليه والبدء به يفتح أبواباً وطرقاً كثيرة لجمع مادته، فسماسرة المخطوطات، والورثة الجدد الذين تختلف هواياتهم عما كان عليه آباؤهم، وأصحاب المتاحف الشخصية، والتجار... كل هؤلاء وأمثالهم يمكن الاعتماد عليهم في جمع الكثير مما يُرغب فيه، وبعد عقد من الزمن يكون ما جمع مما لم يكن متوقعًا حين البدء به.
والمشاريع الجديدة لهذا وأمثاله لا تتوقف، فمنذ أيام قليلة (ذو القعدة 1429 هـ) افتتحت قطر أكبر متحف إسلامي، وفيه من التحف والآثار الإسلامية ما هو نادر جدًا ولم يعرض من قبل في أية جهة!
ومن نافلة القول أن أذكر أن الهدف من اقتراح هذا الموضوع هو لفائدة علمية ومعلوماتية، وليست آثارية تراثية صرفة، فيمكن تصوير ما يلزم لهذه الدار دون التركيز على ضرورة اقتناء أصله، فالفائدة متحققة علمياً بذلك، وتعمل الفهارس اللازمة لإبراز ما في الدار ليستفيد منها الباحثون...
هذا، ولا أعرف مكتبة متخصصة في جمع مخطوطات المصحف الشريف وحده، أو تجمع طبعاته القديمة والجديدة، أو أية مؤسسة تقوم بذلك، أو حتى أفراد!
وفي المنامة وغيرها مراكز أو "بيوت" خاصة بالمصاحف لعلها تكون جزءاً من المشروع العام هذا. والله الموفِّق.