الإنسانُ الذي كرَّمه الله وجعلَ له شأنًا في هذا الكون، ليسَ كاملَ الصفات، بل فيه صفاتُ نقص، وهو يبدو من خلالِ تصرُّفاتهِ متسرِّعًا، ويقدِّمُ نفسهُ أحيانًا كثيرة على أنه مهيَّأ ومستعدٌّ لخوضِ أصعبِ المشاريع، وبأحسنِ ما يكون، ولو كان في ذلك هلاكه!
- وبدا هذا واضحًا عندما عُرضتْ عليه فكرةُ تحمُّل (الأمانة)، التي تعني الفرائضَ والتكاليف، وحُسنَ الطاعةِ والانقياد، وعدمَ الإخلالِ بها، فإذا قامَ بحقِّها أُثيب، وإنْ ضيَّعها عُوقب. فقَبِلَ حملَها، وبيَّنَ استعدادَهُ للالتزامِ بها، والمحافظةِ عليها، وأدائها كما يجب، فكانَ بذلكَ ظالماً لنفسهِ، مُبالِغًا في الجهلِ بما قَبِلَه، مُعتَدًّا بنفِسهِ عندما وافقَ على شروطِ هذهِ الأمانةِ الصَّعبة، وقد عُرضتْ من قبلُ على السماواتِ والأرضِ فأبتْ أن تحملَ هذهِ الأمانة، خوفًا من أنْ لا تقومَ بحقِّها. يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (سورة الأحزاب : 72 ).
ويقولُ الله تعالَى في موضعٍ آخرَ من كتابهِ الكريم: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (سورة الأنبياء: 37).
أي: خُلِقَ الإنسانُ مطبوعًا على العجلةِ والتسرُّع، فهو قليلُ الصَّبر، لا تكادُ تنفكُّ عنهُ العجَلة، ولو كانَ فيما يطلبهُ مضرَّةٌ له!
- وهو (مجادلٌ) أيضًا: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (سورة الكهف: 54).
أي أنَّ الإنسانَ بحسَبِ طبعهِ كثيرُ المخاصَمةِ والمجادلة.
- وهو بخيلٌ، يقول الله تعالَى في حقِّه: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} (سورة الإسراء: 100).
تفسيرها: قلْ لهؤلاءِ المعاندينَ المكابرين، الذين لا يزالونَ يُطالبونَ بالمعجزاتِ كما يوافقُ أهواءَهم: لو كنتُم تملكونَ خزائنَ رزقِ اللهِ ونِعمهِ الكثيرة، لبَخِلتُم بها على عبادِ الله، وامتنعتُم من إنفاقِها خوفًا من أن يُصيبَكمُ الفقر، وكانَ الإنسانُ بخيلاً، قليلَ الإنفاق.
قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ الله: اللهُ تعالَى يَصِفُ الإنسانَ من حيثُ هو، إلاّ من وفَّقَهُ اللهُ وهداه، فإنَّ البخلَ والجزَعَ صفةٌ له...
- ويوصَف في القرآن أيضًا بأنه (كفور). فيقول عزَّ من قائل: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً} [سورة الإسراء: 67].
أي أن سجيَّتهُ هذا، ينسَى النِّعمَ ويجحدها، إلا من عصمَ الله. كما يقولُ ابنُ كثير رحمهُ الله.
وفي معناهُ قولهُ تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (سورة العاديات: 6). أي أنَّ الإنسانَ جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ عليه، مُنكِرٌ لفضلِه، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} (الآية 7) أي: إنَّهُ لشاهدٌ على جُحودِهِ بما يَصنع، وبما يظهَرُ من أثرهِ عليه.
ولعلَّ السببَ هو حبُّه الشديدُ للمال، وفي الآيةِ الثامنةِ من السورةِ نفسها: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ويعني بالخيرِ هنا: المال. وتأكيدهُ في قولهِ تعالَى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (سورة الفجر: 20) أي: تُحبُّونَ جمعَ المالِ حُبًّا كثيرًا طاغيًا.
ولكنْ ليتنبَّهِ الإنسان، فإنه إذا غنيَ بطرَ وطغَى، فقد وردَ في القرآنِ الكريم: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} (سورة العلق: 6) أي: كلاّ لمنْ كفرَ بنعمةِ الله. إنَّ الإنسانَ ليَتجاوزُ حدَّه، ويستَكبِرُ فيَكفرُ بربِّه، ويَستَغرِقُ في حُبِّ الدُّنيا، {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (الآية 7) أي: إذا رَأى نفسَهُ غنيًّا، فكثُرَ مالُه، وزادتْ آثارُ النِّعمةِ عليه، ونسيَ الـمُنعِمَ عليه.
فتنبَّه، فإنَّ وراءها حسابًا: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (الآية 8) أي: إنَّ إلى ربِّكَ المرجِعُ والمصيرُ لا إلى غيرِه، فيُحاسِبُكَ على مالِكَ وأعمالِك.
ويقولُ سبحانهُ فيما يشاكلهُ هنا: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (سورة الأعلى: 16).
تفسيرها: بل تُقدِّمونَ الدُّنيا على الآخرة، حُبًّا للعاجِل، وجهلاً بالباقي. والكافرُ يُعرِضُ عن الآخرةِ كُفرًا بها، والمسلمُ إذا فعلَ فلإيثارِ معصيةٍ وغلَبةِ نفس، وقبلَ ذلك لضَعفٍ في الإيمان.
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الآية: 17). أي: معَ أنَّ تقديمَ الآخرةِ هو الذي فيهِ النَّفعُ والفَلاح، فنَعيمُها أفضل، وأبقَى دوامًا وعافية، والدُّنيا شَهواتًها مُكدَّرَة، ولذَّاتُها فانية، وعليها حسابٌ وتَبِعات.
- والإنسانُ في ابتلاءٍ مستمرّ، قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الملك: 2).
أي: الذي أوجدَ الموتَ والحياةَ في الحياةِ الدُّنيا ليَختبركم أيُّكم أفضلُ عمَلاً وأحسنُ طاعةً لربِّه.
- وفي حقِّهِ يقولُ ربُّنا تباركَ وتعالَى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} (سورة الفجر: 15).
فإذا اختبرَ اللهُ الإنسانَ بالغِنَى والعافية، فأكرمَهُ بالمال، ونعَّمَهُ بما وسَّعَ عليه من زينةِ الدُّنيا، وجعلَ لهُ وَجاهَةً أو مَنصِبًا، اعتقدَ أنَّ ذلكَ إكرامٌ من اللهِ له. وليسَ كذلك، بل هو ابتلاءٌ وامتحانٌ منه، ليَنظُرَ هل يَشكرُ أم يَكفُر، وهل يَعدِلُ أم يَظلِم، وهل يُطيعُ اللهَ أم يَعصيه؟
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} (الآية 16) أي: وأمَّا إذا ضيَّقَ اللهُ عليه، فابتلاهُ بالفقر، اعتبرَ ذلكَ عقوبةً لهُ ومَهانَة، وأنَّ اللهَ لو لم يُرِدْ إهانتَهُ لَما ضيَّقَ عليه في رزقه! وإنَّما أرادَ امتحانَه، ليَنظُرَ هل يكونُ مؤمنًا صابرًا راضيًا بقضاءِ الله، أم متضجِّرًا جَزوعًا يائسًا، ضعيفَ الإيمانِ ساخطًا؟
- ويذكِّرُ القرآنُ العبادَ بأصلِ خلقهم ليعرفوا من هم أصلاً، ولئلاّ يتكبَّرو ويتعالَوا على الحقّ، في آيات كثيرة، مثاله: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} أي: لُعِنَ المكذِّبُ بالبَعثِ والنُّشورِ ما أشدَّ كُفرَه!
{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: من أيِّ شيءٍ مَهينٍ خلقَه؟ ما أصلُهُ وما مبدَؤهُ حتَّى يتكبَّرَ ويُعرِض؟
{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (سورة عبس: 17- 19): خلقَهُ من نُطفةٍ ضعيفة، ثم قدَّرَهُ أطوارًا إلى أن تمَّ خلقُه، وهيَّأهُ لِما يَصلُحُ له.
- كما يذكِّرهم القرآنُ بأنهم إذا ظلموا فإنَّ عاقبةَ ظلمهم تعودُ إليهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة يونس: 23)
يا أيُّها النَّاس، اعقِلوا واحذَروا، فإنَّ هذا الظُّلمَ الذي تُمارسونَه، والفسادَ الذي تنشُرونَه، والدِّماءَ التي تَسفِكونَها، والإعلامَ المـُضَلِّلَ الذي تبثُّونَه، إنَّما هو جنايةٌ على أنفسِكم، فوَبالُهُ يعودُ عليكم، وعاقبتهُ تَرجِعُ عليكم، ولا تضرُّونَ اللهَ به شيئاً، وما أنتم فيه متاعٌ قليل، ولذَّةٌ فانية، وحياةٌ قصيرة، ثمَّ تعودونَ إلينا يومَ الحِساب، فنُخبركم بجميعِ ما كسَبتُموه، ونُحاسبُكم عليه ونُوفِيكم حَقَّه، فانتظروا ذلك اليوم.