يوردُ القرآنُ الكريمُ شُبَهَ الكافرينَ ولو كانت تافهة، ويردُّ عليها ولو كان دحضها سهلاً واضحًا، والهدفُ عدمُ تركِ حجَّةٍ لهم في تخلُّفهم عن الإيمان. ويعني هذا أن القرآنَ صريحٌ معهم للغاية!
وهذه أمثلة، ومثلها كثير:
- قولهُ تعالَى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} (الكهف: 4)
أي: وليُنذِرَ اللهُ بهذا القُرآنِ مَنْ أشركَ بهِ وجعلَ لهُ ولدًا، كالمشركينَ الذين عبدوا الملائكةَ وقالوا إنَّها بناتُ الله، وأهلِ الكتابِ الذين قالوا عن أنبياءَ أو غيرِهم إنَّهم أبناءُ الله! سبحانَهُ وتعالَى.
{مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} (الآية: 5).
وليسَ لهم علمٌ بهذا الذي يقولونَهُ أبدًا، ولا لآبائهم وأجدادِهم، عَظُمَت كلمةً مُنكَرَةً ومُستَبشَعَةً تَصدُرُ عن أفواهِهم، ما يقولونَ إلاّ كلامًا فاسِدًا لا مُستندَ لهُ ولا صِحَّةَ فيه، بل هو كَذِبٌ واختلاقٌ من عندِهم.
- ومن أينَ يأتي الولدُ إذا لم تكنْ هناكَ امرأةٌ تلد؟
{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
أي: كيفَ يكونُ له ولَدٌ ولم تكنْ لهُ صَاحبة، والولدُ يَكونُ مُتولِّداً من شيئينِ مُتناسِبَين، ولا مناسِبَ لله، ولا شيبهَ له، فلا ولدَ له، وهو الخالقُ الذي أوجدَ الكونَ ومَنْ فيه، مِنْ والدٍ ووَلَد، وهوَ عليمٌ بكلِّ شيءٍ عِلماً تامّاً، أزَلاً وأبَداً، مَخلوقاً كانَ ذلكَ الشَّيءُ أم لم يكنْ مَخلوقاً.
- وصارحهم ربُّهم بإفكهم من جعلِ بناتٍ له: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} (سورة الإسراء: 40).
أي: كيفَ تقولونَ إنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ أيُّها المشركونَ الجاهِلون؟ فهل اختارَ لكم ربُّكم أولادًا ذكورًا واتَّخذَ لنفسهِ من الملائكةِ إناثًا؟ كيفَ تجعلونَ لربِّكم شيئًا تَكرهونَهُ لأنفسِكم؟ إنَّكم تقولونَ قَولاً مُستَنكَرًا من أساسِه، عظيمًا في جُرأتهِ وشناعته.
- ويوردُ ربُّنا جوابًا مقنعًا لمن أشركَ به، يتأدَّبُ به العقلاءُ وينتهي عنه ذوو الألباب: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (سورة المؤمنون: 91).
أي: لم يَتَّخذِ اللهُ ولدًا، فلا يُشبِهُهُ أحد، وليسَ هو بحاجةٍ إلى أحد، ولم يكن لهُ شَريكٌ في الأُلوهيَّة، ولو كانَ هناكَ إلهانِ أو أكثر، لانفردَ كلُّ إلهٍ بنصيبهِ من الخلقِ واستقلَّ بهِ عن الآخَر، وتفرَّدَ بالتصرُّفِ فيه، ولَمَا وُجِدَ هذا التَّنظيمُ والتناسقُ الشَّاملُ في الكونِ كلِّه.
ثمَّ إنَّ الأمرَ لا يبقَى هكذا دون تنافسٍ وتخاصُم، فسيَعلو إلهٌ على آخرَ ويحاربهُ ويُغالِبهُ ليَقضيَ عليه ويستأثرَ بمُلكِه، كما هو الشَّأنُ في ملوكِ الدُّنيا. فتَنزَّهَ اللهُ وتقدَّسَ عمَّا يصفونَهُ به من دعوَى الولدِ والشَّريك.
- ومن مصارحةِ القرآنِ مع عبدةِ الأصنام، ما وردَ في الآيات 191-195 من سورةِ الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
أي: أيُشرِكونَ باللهِ تعالَى أصناماً من حجرٍ، لا تَقدِرُ على الحركة، ولا على الضَّررِ والنَّفع، ولا هي قادرةٌ على أن تَخلُقَ شيئاً، وعابِدوها أقدرُ منها وأسمعُ وأبصَر!! وهذه الأصنامُ مصنوعةٌ ومُشَكَّلةٌ بأيديهم؟! {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (سورة الصافات: 95)؟
وفي موضعٍ آخرَ من القرآنِ الكريم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} (سورة فاطر: 40).
أي: قلْ للمُشركينَ أيُّها الرسول: أرأيتُم هذهِ الأصنامَ التي تدَّعونَ أنَّها آلِهَة، وتَعبدونَهم من دونِ الله، أَرُوني ولو شيئًا قليلاً خلقوهُ في الأرضِ ممَّا يراهُ النَّاس، حتَّى يستحقُّوا أن يُسَمَّوا آلِهَة! أم أنَّ لهم شراكةً مع اللهِ في خَلقِ السَّماواتِ حتَّى يستحقُّوا ذلك؟ أم أنزلنا عليهم كتابًا نُخبِرُهم فيهِ بأنَّهم شركاءُ لنا فهم على حُجَّةٍ ظاهرةٍ من ذلك؟! لا يوجدُ شيءٌ من ذلك كُلِّه، إنَّما اتَّبعَ المشركونَ أهواءَهمُ الزَّائغة، وأفكارَهمُ المنحرفَة، حيثُ غرَّرَ الأسلافُ بالأخلاف، وأضلَّ الرؤساءُ أتباعَهم، وكانوا جميعًا في بُطلانٍ وغرور.
تتمةُ الآياتِ من سورةِ الأعراف: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}
أي: ولا تَقدِرُ هذه الأصنامُ على الانتصارِ لمن يَعبُدها، كما لا تستطيعُ الدفاعَ عن نفسِها إذا ضُرِبتْ أو كُسِرت.
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ}
وإنْ تَدْعُوا -أيُّها المشركونَ- هذه الأصنامَ لتُرشِدَكم إلى أمرٍ فيهِ مصلحةٌ لكم، لَمَا سمعتْكم ولا استجابتْ لكم، ولا حقَّقتْ مرادَكم، وسواءٌ عندها مَن ناداها أو لم يُنادِها، فإنَّها لا تَسمعُ أصلاً، فهيَ جمادٌ من حجرٍ أصمّ، لا تُحِسُّ ولا تَسمع.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
إنَّ هذه الأصنامَ التي تَعبدونَها من دونِ الله، ما هي سِوَى مخلوقات، مثلَ عابِديها المخلوقين، وأنتم وهم مملوكونَ للهِ مُسخَّرونَ لأمرِه، وها هي عندكم، فارفعوا أيديَكم إليها لتَجلُبَ لكم نَفعاً أو تدفعَ عنكم ضُرًّا، إذا كنتُم صادقينَ في أنَّها آلهةٌ تَقدِرُ على ما لا تَقدِرونَ عليه؟!
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} [سورة الأعراف :191- 195].
هل لهذهِ الأصنامِ -التي تدَّعونَ أنَّها آلِهةٌ- أرجلٌ يمشُونَ بها ليُعَدُّوا أحياءً لهم قدرةٌ على الحركة، ليُسعِفوكم ويخلِّصُوكم من مُعضلةٍ تقعونَ فيها؟
أم لهم أيدٍ يستطيعونَ أن يأخُذوا شيئاً ما بقوَّةٍ ويُفيدوكم بها، أو يدفعوا عنكم أذًى يَلحَقُكم؟
أم لهم أعينٌ يُبصِرونَ بها ليُبَصِّروكم أشياءَ لا قدرةَ لكم على رُؤيتها، أو يشكُروا لكمْ على ما تُقدِّمونَ لهم من ذبائحَ وقرابين؟
أم لهم آذانٌ يسمعونَ بها دعاءَكم وعبادتَكم لها؟
إنَّهم لا يتمتَّعونَ بصفةٍ من تلكَ الصِّفات، ولا بحاسَّةٍ من تلكَ الحواسّ، ولا فائدةَ منهم ألبتَّة.
فحاجِجْهم أيُّها النبيُّ، وقل لهم: هاتوا آلهتَكمُ المزعومةَ هذه، واستَعينوا بها عليّ إنْ كانت قادرةً على إلحاقِ ضررٍ بي، واجتهدوا في ترتيبِ كلِّ ما تَقدِرونَ عليهِ من مكرٍ وكيدٍ، ولا تُمهِلوني ولا تُشعِروني بما ستَفعلونَه، فإنِّي لا أبالي بكم ولا بأصنامِكم أصلاً!
- وضربَ لهم خليلُ الله إبراهيمُ عليه السلام مثلاً عمليًا ليفهموا جيدًا أن الأصنامَ لا تقدرُ على فعلِ شيءٍ من ضرٍّ أو نفع. فيعدَ أن نسفَ أصنامهم كلَّها أبقَى أكبرَ صنمٍ بينها، ليقولَ لهم إنه هو الذي كسرَ هذه الأصنام؛ ليرجعوا إلى عقولهم ويقولوا فطرة وبداهةً إنها لا تقدرُ على فعلِ ذلك: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}. (سورة الأنبياء: 62-63)
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} (الآية: 64).
فُوجِئوا بهذا الجواب، بل أُفحِموا ولم يعرفوا كيفَ يردُّونَ عَليه. وعندما تدبَّروا أنَّ قولَهُ حقّ، وأنَّ هذه الآلِهةَ المزعومةَ ما هي سِوَى أحجارٍ صمَّاءَ لا قدرةَ لها على الحركةِ والكلام، ولا الدِّفاعِ عن نفسِها، قالوا فيما بينهم: بل أنتمُ المخطِئونَ بعبادةِ مَنْ لا يتكلَّمُ ولا يَفهم، ولا يَضرُّ ولا يَنفع.
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ} (الآية: 65).
ثمَّ أطرقوا رؤوسَهم وهم في خيبةٍ وحَيرة، وقالوا في عنادِ الكافرِ ومَنطقِ المهزوم: لقد علمتَ يا إبراهيمُ أنَّ هذهِ الآلِهةَ لا تتَكلَّم، وأنَّنا كنّا نَعبُدُها معَ علمِنا بذلك!
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ} (الآية: 66).
قالَ لهم عليه السَّلام: إذا كانتْ هذه الأحجارُ لا تَنطِق، ولا تستطيعُ الدِّفاعَ عن نَفسِها، فكيفَ تُسَمُّونَها آلِهة، وكيفَ تعبدونَها من دونِ الله، وهي لا تنفعُكم بشيء، ولا تضرُّكم بشيء؟!
{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الآية: 67).
تُبًّا لكم على إصرارِكم وتشبُّثِكم بالباطِل، وعبادتِكم لهذهِ الجماداتِ التي تدَّعونَ أُلوهيَّتَها وقد صنعتُموها بأيديكم، وهي غيرُ قادرةٍ على إفادتِكم ولا الإضرارِ بكم، أفلا تتفكَّرون فيما أنتم فيه من ضلالٍ وجهل، وتتدبَّرونَ فيمَنْ يَستحِقُّ العبادةَ حقًّا؟
- وهذه صراحةٌ أخرى ملفوفةٌ بأدبِ القرآن، مع أهلِ الكتابِ هذه المرة، للنصارَى المتشبِّثين بألوهية المسيح، فيقول لهم الله سبحانهُ وتعالَى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة المائدة: 75].
أي: المسيحُ عيسَى بنُ مريمَ ما هو إلا عبدٌ رسولٌ وليسَ بإله، وقد سبقَهُ رسلٌ من أمثالهِ كانوا بشراً كذلك، ولم يكونوا آلهة. وإذا كانَ أُوتيَ مُعجِزاتٍ خارقة، فإنَّ مَنْ سبقَهُ من الرسُلِ كذلكَ أُوتوا مُعجِزاتٍ خارقة، وإذا كان قد خُلِقَ من غيرِ أب، فإنَّ هناكَ مَنْ خُلِقَ من دونِ أبٍ ولا أمّ، وهوَ آدمُ عليه السَّلام، ولم يكنْ إلهاً.
وأمُّهُ مريمُ كذلكَ كسائرِ النِّساء، كانت وليَّةً طاهرة، مؤمنةً بابنِها نبيًّا ورسولاً، مُصدِّقةً لهُ فيما يُبَلِّغُ عن ربِّه، ولم تكنْ إلهة. وكانَ كلاهما يَجوعانِ ويَعيشانِ بالغِذاءِ كسائرِ الآدَميين، ويَتخلَّصانِ من فَضلاتِهما كما يَتخلَّصُ منها البشَر. فكيفَ يجوعُ الإلهُ ويَهلِكُ إذا لم يأكل؟ وكيفَ يَتغوَّطُ الإله؟! بل هذهِ كلُّها صفاتُ آدميِّينَ كما تُرَى.
فانظرْ كيفَ نُبيِّنُ لهمُ الأدلَّةَ والحُجَج، والبراهينَ المقنِعةَ الواحدةَ تِلْوَ الأخرَى، وانظرْ بعدها كيفَ يَنصرفونَ عن الحقّ، وعلى أيِّ مذهبٍ ضالٍّ يُقيمون؟!