أنبياءُ الله المصطَفون صلواتُ الله وسلامهُ عليهم هم أفضلُ الخلقِ وأكرمهم، وأعلمهم، وآدبهم، ومع ذلك فإن الله تعالَى عاتبهم في مواضعَ من كتابهِ الكريم، ليعلِّمَ البشرَ أن الحقَّ فوقَ كلِّ شيء، فوقَ الخلقِ وفوقَ الأنبياءِ أجمعين، ويُصرَّحُ بقولِ الحقِّ لهم كلِّهم.
- مثالهُ مع آدمَ عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121).
أي: عصَى آدمُ ربَّهُ بأكلِ الشَّجرة، فأخطأ الطريقَ وضلَّ عن مطلوبه عندما اغترَّ بقولِ العَدوِّ، وطلبَ الخلودَ بأكلِ ما نُهِيَ عنه، فخابَ ولم يحقِّقْ هدفَه.
- ومع يونسَ عليه السلام: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم: 48).
أي: فاصبِرْ أيُّها الرسولُ على أذَى قَومِكَ وتكذيبِهم لك، ولاتكنْ كالنبيِّ يونُسَ في الضَّجرِ والعجلة، الذي وعدَ قومَهُ بالعذاب، ثمَّ هجرَهم وهو غاضِبٌ عليهم، منتظرًا أن يَحِلَّ بهم ما وعدهمُ اللهُ به، قبلَ أن يأذنَ اللهُ لهُ بالخروج، ولم يَصبرِ الصَّبرَ اللَّازم، فركبَ البحر، وابتلعَهُ الحوت، ودَعا ربَّهُ –وهو مملوءٌ غمًّا- أن يغفرَ لهُ ويتوبَ عَليه. {لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ} (الآية: 49): ولو لم تُدْرِكْهُ رحمةٌ من ربِّهِ ولم يستجبْ دعاءَه، لطُرِحَ بأرضٍ خالية، وهوَ يُلامُ على ذنبه.
- أما إبراهيمُ خليلُ الله عليه الصلاةُ والسلام، فقد جاءتِ الآياتُ صريحةً عندما طلبَ أن يجعلَ الله من ذرِّيتهِ أئمةً: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
أي: واذكرْ أيُّها النبيُّ شأنَ هذا النبيِّ العظيم، الذي اختبرَهُ اللهُ بأوامرَ وشرائعَ ونَواهٍ، فقامَ بها كلَّها، فجزاهُ اللهُ خيراً على ما فعل، وقالَ له: سأجعلُكَ قُدوةً وإماماً للناسِ يقتدونَ بكَ في التوحيد، ويَحذونَ حَذْوَك، فسألَ عليهِ السلامُ أن تكونَ هذهِ الإمامةُ في ذُرِّيَّتِهِ أيضاً، فأُجيب: سيكونُ منهم مَنْ لا يَفِي بالأوامرِ والتكاليف، بل يظلِمُ ويَفْسُق، ولن يكونَ عهدُ الإمامةِ لأمثالِ هؤلاء، فشأنُها عظيم، بل هوَ لمن يختارُهمُ اللهُ من أهلِ الإيمانِ والصَّلاح.
- ومن عتاب الله تعالَى لنبيِّنا الكريم صلى الله عليه وسلم: لمـَّا جاءَهُ الصَّحابيُّ الأعمَى ابنُ أُمِّ مكتوم رضيَ الله عنه، فجعلَ يقولُ له: يا رسولَ اللهِ أرشدني، وعندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رجلٌ من عُظماءِ المشرِكين، فجعلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعرِضُ عنهُ ويُقبِلُ على الآخَر، وقد طَمِعَ في إسلامِه، فعاتبهُ ربُّه بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} ... (الآيات 1-7).
- ومنها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة التحريم: 1)
شَرِبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عسلاً عندَ إحدَى زوجاتِه، فاتَّفقتْ عائشةُ وحفصةُ رَضيَ اللهُ عنهما على أنَّهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا دخلَ على أيَّتِهنَّ فلتَقُلْ له: إنِّي أجدُ منكَ ريحَ مَغافير، وهوَ شَبيهٌ بالصَّمغ، فيهِ حلاوةٌ ولهُ رائحَةٌ كريهة، فقالتْ لهُ إحداهُنَّ ذلك، فقالَ صلى الله عليه وسلم: "لا، بلْ شَرِبتُ عسَلاً عندَ زَينبَ بنتِ جَحش، ولنْ أعُود". فنزلَت. ولفظُ قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من صحيحِ البخاريّ.
أيُّها النبيُّ الكريم، لماذا تُحرِّمُ على نفسِكَ طعامًا أحلَّهُ اللهُ لك، أتُريدُ بذلكَ أنْ تُرضيَ بعضَ زوجاتِك؟ لقد غفرَ اللهُ لك، واللهُ كثيرُ المغفرة، واسعُ الرَّحمة.
- ومنها في قصةِ زواجهِ صلى الله عليه وسلم من ابنةِ عمَّته زينبَ بنتِ جحش، التي كانت أولاً تحتَ (حِبِّهِ) زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان قد تبنَّاهُ قبلَ النبوَّة:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (سورة الأحزاب: 37).
أي: واذكرْ قولكَ لمَولاكَ زيدٍ، الذي أنعمَ اللهُ عليهِ بالإسلام، وأنعمتَ عليهِ بالعتقِ مِن الرِّقِّ ومزيدِ القُرب: أَبْقِ على زوجتِكَ زينب، واتَّقِ اللهَ في أمرِها، ولا تُطلِّقْها. وكان قد اشتدَّ لسانُها عليه، رضيَ اللهُ عنهما. وتُسِرُّ في نَفسِكَ أيُّها الرَّسولُ ما اللهُ مُظهِرُه، وهو أنَّ زيدًا سيُطَلِّقُها وتتزوَّجُها بعدُ، وتخافُ من اعتراضِ النَّاسِ ولومِهم، لكونِكَ تزوَّجتَ زوجةَ مَنْ تبنَّيتَهُ سابقًا بعد طلاقِها منه، واللهُ أحقُّ وأولَى أن تخافَهُ في كلِّ أمر.
فلمَّا قضَى زيدٌ حاجتَهُ منها وطلَّقَها، جعلناها زَوجةً لك، حتَّى لا يَبقَى حرجٌ على المؤمنينَ في الزَّواجِ من زوجاتِ أدعيائهمُ الذين تبنَّوهم من قبل، بعد طلاقِهِنَّ وانقضاءِ عِدَّتِهنّ، وكان أمرُ اللهِ وحكمُهُ نافِذًا وحاصِلاً لا محالة.
وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد تبنَّى زيدَ بنَ حارثةَ قبلَ النبوَّة، فكانَ يُقالُ لهُ "زيدُ بنُ محمَّد" فنزلَ الوحيُ بمنعِ التبنِّي، كما مرَّ في الآيتينِ الرَّابعة والخامسةِ من هذهِ السُّورَة.
- ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أكرمُ خلقِ الله على ربِّه، وهو الذي أرسلهُ رحمةً للعالمين، وجعلهُ على خُلقٍ عظيم... ومع ذلكَ فإن ربَّهُ حذَّرَهُ في آياتٍ كثيرة، وذكرَ بعضَ ما كان يحدِّثُ به نفسه.. وإن كان المفسِّرون يرونَ في ذلك تحذيرًا لأمتهِ بالأولى.
مثاله: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [سورة البقرة: 120].
أي: إذا تابعتَهُم في آرائهمُ الزائفة، ومقولاتِهُم الفاسدة، وطرائقِهُمُ الملتوية، بعدَ ما نزلَ عليكَ الوحيُ، وعلمتَ أنَّ دينكَ هوَ الصَّحيح، فقد مِلْتَ عن الهُدَى، ولن يَكونَ اللهُ والياً أمرَك، ولا ناصرَكَ ومؤيِّدَك، ولن يدفعَ عنكَ عقابَه.
وهذا من بابِ التهييجِ والإلهاب، ولا يُتَوَهَّمُ إمكانُ اتِّباعهِ صلى الله عليه وسلم لهم، ولكنَّهُ تنبيهٌ لأمَّتهِ على الحذرِ من أهلِ الكتاب، الذين لا يُفيدهم أيُّ تنازلٍ بالحوارِ وغيرِه، ولن يَرْضَوا إلا بالانضواءِ تحتَ مظلَّةِ دينِهم.
ومثلهُ قولهُ تعالَى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة: 145).
أي: لو أنَّكَ اتَّبعتَ مرادَهم بعدَ الذي وجَّهكَ اللهُ إليهِ ورضيَهُ لكَ من القِبلة، لكنتَ مُؤثِراً الباطلَ على الحقّ.
وهوَ –أيضًا- على الفَرَضِ والتقدير، وتحذيرٌ للأمَّةِ من أهواءِ أهلِ الكتابِ وأضاليلِهم.
- ومن التنبيهِ والتذكيرِ الواضحِ لرسولنا الكريمِ صلى الله عليه وسلم: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأنعام: 35]
تفسيرها: وإذا شقَّ عليكَ إعراضُ المشركينَ وعَظُمَ عليكَ مخالفتُهم بما جئتَ بهِ من القرآن، فإنْ قَدَرتَ وتهيَّأَ لكَ أن تطلُبَ سِرْباً في الأرض، أو دَرَجاً ومَرقاةً في السَّماءِ فتَصعدَ فيه، فتأتيَهم منهما بآيةٍ أفضلَ ممّا آتيناهم بهِ ليؤمنوا، فافعل. -وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ حريصاً أن يتابِعَهُ جميعُ الناس- ولو شاءَ اللهُ أن يجمعهم على الهُدَى والإيمانِ لفَعل، ولكنَّهم لا يحبُّونَ ذلك، ولا يُريدونَ أن يسمعوا كلامَك، ولا أن يتوجَّهوا إلى الخير، فلا تكنْ بهذا الحرصِ الشَّديدِ على إسلامِهم، ولا تَجزعْ في مواطنِ الصَّبر، ولا تكوننَّ من الجاهلينَ بذلك.
ومن ذلك أيضًا قولهُ تعالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73-75).
أي: كادَ المشركونَ أن يوقِعُوكَ في الفتنة، ويَصرِفوكَ عمّا أوحيناهُ إليكَ من الأحكام، لِما يراجعونكَ فيهِ ويقترحونَه، ويطلبونَ منكَ أن تَختلقَ على اللهِ غيرَ ما أوحاهُ إليك، ولو وافقتَهم على ذلكَ لاتَّخذوكَ صديقًا ووليًّا لهم.
ولو لم نُثبِّتْكَ على الحقِّ لكِدْتَ أن تَميلَ إليهم شيئًا قليلًا، لشدَّةِ كيدِهم واحتيالِهم.
ولو أنَّكَ مِلتَ إليهم ولو شَيئًا قَليلًا، لأذقناكَ عذابًا مُضاعَفًا في الحياةِ الدُّنيا، وعذابًا مُضاعفًا في الحياةِ الآخِرَة، ثمَّ لا تجدُ مُعينًا يمنعُكَ من عذابِنا.
وقد عصمَ اللهُ رسولَهُ الكريمَ من فِتنَةِ المشركينَ والركونِ إليهم. وهذا درسٌ كبيرٌ للمسلِمينَ بعدمِ التنازلِ لهم عن شيءٍ من أحكامِ دينِهم للكافرين، فهو نظامٌ متكامِلٌ لا يَصلُحُ التَّفريطُ بجزءٍ منه. وفرقٌ بين العزَّةِ بالإسلامِ والفخرِ به، وبين التَّنازلِ عنهُ أو عن بعضِه.