والمسلمونَ يحتاجونَ إلى تذكيرٍ وتنبيه، وتوجيهٍ وتسديد، فإنه يعتريهم من الضعفِ والخطأ ما يعتري غيرهم، ولكن الفرقَ أنهم إذا ذُكِّروا تذكَّروا وآبوا؛ لإيمانهم.
- مما يعتري النفسَ من ضعفٍ إيثارُ الأهلِ والوقوفُ إلى جانبهم ولو كانوا مائلينَ عن الحقّ؛ ولذلك جاء التحذير: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ...} (سورة المجادلة: 22)
أي: لا تجدُ أحدًا من المؤمنينَ باللهِ واليومِ الآخِرِ –بصدقٍ وإخلاصٍ- يُوالُونَ ويُصادقونَ أعداءَ اللهِ ورسولِه، ولو كانَ هؤلاءِ الأعداءُ آباءَهم، أو أبناءَهم، أو إخوانَهم، أو قبيلتَهم وعشيرتَهم، أو أيًّا من أقاربِهم، فالعقيدةُ أهمُّ من النَّسب، ومَنْ وَالاهم فهو معهم يومَ القيامة. والذينَ لا يُوادُّونَهم ولو كانوا أقرباءَهم، فأولئكَ الذين أثبتَ اللهُ في قلوبِهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ لهم، فهم مُوقِنونَ مُخلِصون، وقوَّاهم بروحٍ من عنده، لتحصلَ لهمُ الطُّمأنينةُ والثَّباتُ على الإيمانِ والعملِ الصَّالح، ويُدخِلُهمُ اللهُ جنَّاتٍ عالياتٍ واسعات...
والحقُّ في قولِ المؤمنينَ للكافرين: {إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (سورة الممتحنة: 4).
ويقولُ ربُّنا جلَّ ذكرهُ في آيةٍ جامعةٍ حولَ هذا الموضوع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135]
أي: كونُوا عادلينَ في أمورِكمْ دائماً، لا يَصرِفْكم عن العدلِ صارف، وابتَغُوا بذلكَ وجهَ الله، لا غَرَضاً دنيويًّا ومصلحةً شخصيَّة، سواءٌ كان قيامُكم بالعدلِ أو قولُكمُ الحقَّ لصالحِكم أو لغيرِ صالِحكم، فإنْ كانَ الأوَّلُ فذاك، وإنْ كانَ الثاني فقد جعلَ اللهُ لكم مخرَجاً وعوَّضكم خيراً.
وحتَّى لو كانتِ الشهادةُ على الوالدَينِ والقرابة، فإنَّ الحقَّ حقّ، يحكمُ على كلِّ أحد، ويُقَدَّمُ على كلِّ شيء.
ولو كان الذي عليه الحقُّ غنيًّا أو فقيراً، فإنَّ القولَ العدلَ والشَّهادةَ المنصفةَ لا تُراعِي غنيَّاً لماله، ولا تُشفِقُ على فقيرٍ لحالِه، واللهُ يتَولَّى شأنَهما ويَنظرُ في حالِهما بعد ذلك، فكِلوا أمرَهما إلى اللهِ تعالَى.
ولا يَحملنَّكم غَرَضٌ ما في نُفوسِكم إلى الميلانِ نحوَ الباطلِ والعُدولِ عن الحقّ، فإذا حرَّفتمُ الشَّهادة، وأبطَلتمُ الحقَّ في أمورِكم، وتركتُم إقامةَ العدلِ، فإنَّ اللهَ عليمٌ بعملِكمُ الآثمِ هذا، مُطَّلعٌ على ما غيَّرتُموهُ وأبطَلتُموه، وسوفَ يُجازيكم على ذلكَ سوءَ الجزاء.
- ومع أن الله حذَّرَ المسلمينَ من الغيبة، ووصفَ المتلبِّسَ بها بأبشعِ صورة، وهي أكلُ لحمِ الميت، إلا أنها منتشرةٌ بكثرةٍ في المجتمع، وطاعةُ الله واجبةٌ قبلَ كلِّ شيء.
{وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (سورة الحجرات: 12).
أي: ولا يَذكُرْ بعضُكم بعضًا بما يَكرَه، فهذا من الكبائر، وهوَ يؤدِّي إلى التَّباغضِ والشِّقاقِ في المجتمعِ المؤمن. أيُحِبُّ أحدُكم أنْ يأكُلَ لحمَ أخيهِ وهو ميِّت؟ فإنَّكم تكرهونَ ذلكَ وتَعافُونَهُ وتَبغُضونَه، فابغُضوا غِيبتَهُ كذلك، فإنَّ ذِكْرَ المرءِ أخاهُ الغائبَ عنهُ بسوء، بمنزلةِ أكلِ لحمهِ وهو ميِّتٌ لا يُحِسُّ به.
واخشَوا اللهَ ولا تُخالِفوا أمرَه، وتُوبوا إليه، فإنَّهُ كثيرُ قبولِ التَّوبة، رحيمٌ بالمؤمنينَ منهم.
- وكذلك التفرقةُ العنصريةُ موجودةٌ ومنتشرةٌ في البلادِ الإسلامية، فترى المسلمَ في غيرِ بلدهِ (أجنبيًا) عن بقيةِ إخوانهِ المسلمين، ويتميَّزَ الشخصُ في كلِّ بلدٍ عن الآخرينَ بـ (مواطنيَّتهِ) وليسَ بدينهِ وتقواه، ولا مساواةَ بينهما ألبتة! والقرآنُ الكريمُ صريحٌ في هذا الأمر: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (سورة الحجرات: 10)، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات: 13).
أي: إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ في الدِّين، فهم ينتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ في العقيدة، وهيَ أهمُّ شيءٍ في الحياة.
والأكرمُ عندَ اللهِ والأرفعُ منزلةً لديهِ هو الأتقَى، وليسَ الأرفعَ نسَبًا، فإذا تفاخرتُم فتَفاخروا بالتَّقوَى، والنَّسبُ ليسَ مُكتَسبًا بعمَل، فلا يكونَ مَدارًا للثَّوابِ عندَ الله. إنَّ اللهَ عليمٌ بأقوالِكم في مَجالسِكم، خبيرٌ بنيَّاتِكم وأحوالِكم.
- وعاتبَ الله المسلمينَ لمـّا تركوا الخُطبةَ واتجهوا نحو قافلةٍ تجارية، والخطيبُ هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سورة الجمعة: 11).
قال جابرٌ رضيَ اللهُ عنه: أقبلتْ عِيرٌ -أي قافلةٌ محمَّلَةٌ بالمتاعِ- يومَ الجمعة، ونحن معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فثارَ النَّاسُ إلاّ اثنَي عشرَ رَجُلاً، فأنزلَ الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا...} رواهُ البُخاريُّ في صحيحه.
وإذا رأوا تجارةً قادمة، أو تصفيقًا وطَبلاً، أو دُفًّا يُضرَبُ به لاستقبالِ القافلة، تفرَّقوا من عندكَ وقامُوا إلى التِّجارة، وتركوكَ قائمًا تخطبُ على المنبر، قلْ لهم أيُّها الرسُول: إنَّ ما أعدَّهُ اللهُ ِمن الأجرِ والثَّوابِ في الدَّارِ الآخرة، خيرٌ من القيامِ إلى اللَّهوِ وطلبِ البيعِ والشِّراءِ في هذا الوقت، فإنَّ نفعَ ما عند اللهِ مُحقَّق، ونفعَ اللَّهوِ في الدُّنيا ليسَ بمُحقَّق، بل مُتَوهَّم، ونفعَ التِّجارةِ ليسَ بمخلَّد. واللهُ خيرُ من رزقَ وأثاب، وهو مُوجِدُ الأموالِ والأرزاق، فاسعَوا إليه، واطلبوا منه الرِّزقَ في وقتهِ كما أمركم.
ويعني هذا أن السلبياتِ في المجتمعِ تُذكَرُ ولا تُكتم، ولكنْ بحكمة، ومع معالجتها والتحذيرِ منها، حتى لا تستشريَ الأمراضُ النفسيةُ والاجتماعيةُ في المجتمعِ الإسلامي.