والجهادُ له شأنٌ كبيرٌ في دينِ الإسلام، ووردَ في فضلهِ وفضلِ الاستشهادِ في سبيلِ الله أحاديثُ جليلة، ولكن مع ذلك صرَّحَ القرآنُ الكريمُ أن الناسَ لا يحبُّونَ القتال، وقد فُرِضَ على المسلمينَ رغمَ كرههم له!
قال الله جلَّ ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة:216)
أي: فرضَ اللهُ عليكمُ الجهادَ وهو شاقٌّ عليكم، تَكرههُ النفوسُ وتَستثقلُه، ولكنْ ربَّما كَرِهتُم شيئاً وفيه خيرٌ لكم، فإنَّ نتيجتَهُ -إنْ شاءَ اللهُ- النصرُ على الأعداءِ وفتحُ بلادِ الكفر، ورفعُ رايةِ الإسلام، أو الشهادةُ التي يَدخلُ بها المرءُ الجنَّة. وعسَى أن تحبُّوا شَيئاً وفيهِ شرٌّ لكم، فإنَّ القُعودَ عن الجهادِ والركونَ إلى الكسلِ والرفاهيةِ يُعطي نتيجةً عَكسيَّة، فيَستولي الأعداءُ على البلاد، وينهزمُ المسلمون، ويتحكَّمُ الكفّارُ في شؤونِهم.
فالجهادُ سببٌ لحصولِ النصرِ والأمن.
واللهُ أعلمُ منكم بمآلِ الأمور، وأخبَرُ بما فيه صلاحُكم في دنياكم وآخرتِكم، فالتزموا جانبَ الجهادِ والقوَّة.
وقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "مَنْ ماتَ ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّثْ بهِ نفسَهُ، ماتَ على شُعْبةٍ مِنْ نِفاق".
- وفي القرآنِ الكريمِ تصريحٌ باللومٌ لمن آثرَ السلمَ والراحةَ على الجهاد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [سورة النساء:77]
ألا تنظرُ أيُّها النبيُّ إلى بعضِ المسلمينَ الذينَ طُلِبُ منهم أنْ يَكفُّوا عن قتالِ المشركينَ ويَعفوا عنهم عندما كانوا ضعفاءَ بمكَّة، وقيلَ لهم وقتَها: قُومُوا بواجبِكم في الطَّاعةِ وجهادِ النَّفس، فأقيموا الصَّلاةَ بخُشوع، وأعطُوا الزكاةَ لتواسُوا بها الفقراءَ والمساكين، لكنَّهم كانوا يطلبونَ منكَ أن تأذنَ لهم بقتالِ المشركين؛ لِما يَلقَونَ منهم من الأذَى.
ولما قَوُوا وفُرِضَ عليهمُ الجِهاد، وطُلِبَ منهم مقاتلةُ الكفّار، إذا فريقٌ منهم يَخشَونَهم كما يَخشَونَ من اللهِ أن يُنْـزِلَ بهم بأسه، أو أكثَر، وذلكَ لِما أصابَهم من خوفٍ وجَزَع -والمسلمونَ مُتفاوِتونَ في قوَّةِ الإيمان، وفي لقاءِ الأعداء- وقالَ أولئكَ الخائفون: ربَّنا لمَ فرضتَ علينا القتالَ الآن، فلو أخَّرتَ فَرْضَهُ إلى وقتٍ آخرَ لكانَ أفضل، ففيهِ سفكٌ للدِّماء، ويُتمٌ للأبناء، وتأيُّمٌ للنِّساء...
قلْ لهم أيُّها النبيّ: إنَّ جميعَ ما يُستَمتَعُ بهِ في الدُّنيا هوَ قليلٌ جدّاً بالنسبةِ إلى الثَّوابِ المتَرتِّبِ على الأعمالِ الطيِّبةِ في الآخرة، ومنها الجهادُ في سبيلِ الله، فالآخرةُ لمن جاهدَ واتَّقَى خيرٌ من الدُّنيا ومتاعِها القليل.
- وفي الآيات (5-8) من سورةِ الأنفالِ صورةٌ أخرَى من قلقِ فئةٍ من المسلمينَ تجاهَ مقاتلةِ الكفار: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}
تفسيرها: وكما كَرِهَ بعضُ المؤمنينَ تسويةَ الغَنائم، فقد كَرِهَ فريقٌ منهم أيضاً إخراجَكَ من بيتِكَ بالمدينةِ بوحي وتدبيرٍ من عندِ اللهِ لمقاتلةِ المشركين.
وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد خرجَ مع ثلاثمِئةٍ وبضعةَ عشرَ رجلاً من أصحابهِ يطلبونَ قافلةً كبيرةً لأبي سفيان، مُحَمَّلةً بأطعمةٍ وأموالٍ جزيلةٍ لقريش، قادمةً من الشَّام، فسمعَ أبو سفيانَ بخروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبعثَ إلى مكَّةَ يستنجِدُ بمشركي قريش، فخرجَ منهم نحوُ ألفِ مُحارِب. وقد نَجتِ القافلة، ثمَّ شاورَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ في الحرب، فوافَقوه، وكَرِهَ بعضُهم ذلك.
ويجادلُكَ هؤلاءِ الكارِهونَ في القتالِ بعدما تبيَّنَ لهم أنَّكَ ستُنفِّذُ أمرَ اللهِ وتُقاتل، ويقولون: ما كان خروجُنا إلاّ للقافلة، ولم نستعدَّ للحرب. ولشدَّةِ كراهيتِهم لذلك، كانت حالُهم كأنَّما يُساقُونَ إلى الموتِ وهم يشاهدونَ علاماتِه!
واذكُروا مع ما بكم من الجزعِ وقلَّةِ العدد، أنْ وعدكمُ اللهُ الفوزَ بإحدَى الغنيمتَين: إمّا قافلةَ أبي سفيان، وإمّا النصرَ على جيشِ المشركين. وأنتم تحبُّونَ التي لا قوَّةَ فيها ولا قتال، وهي القافلة. بينما يريدُ اللهُ أن يُظهِرَ دينَه، ويَرفعَ رايةَ الحقّ، ويُهلِكَ الكافِرين، حتىَّ لا يُبقي منهم أحداً. ولذلكَ أمركم بقتالِهم.
ليُثبِتَ الإسلامَ بذلكَ ويجعلَهُ غالِباً على الأديانِ، ويَمحَقَ الكُفر، ولو كَرِهَ المشركون.
وفي غزوةِ الأحزاب: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (سورة الأحزاب: 10).
واذكروا كيفَ جاءكم المقاتلةُ المشركونَ من أعلَى الوادي من قِبَلِ المشرِق، ومن بطنِ الوادي من قِبَلِ المغرِب، وقد مالَتِ العيونُ وشخَصَتْ من الحيرةِ والرُّعب، وخافتِ القلوبُ وفَزِعتْ فزعًا عظيمًا، وتظنُّونَ باللهِ الظُّنونَ المختلفة، فمن مخلِصٍ ثابتِ الإيمانِ يؤمنُ بنصرِ الله، ومن خائفٍ لا يتحمَّلُ ما يرَى، وظنَّ المنافقونَ أن الأحزابَ سيقضونَ على المسلمين.
ويُقالُ هنا: إن أحوالَ المسلمينَ تُذكَرُ ولو كان فيها سلبيات، ويعني أن المجتمعَ الإسلاميَّ يُذكرُ بإيجابياتهِ وسلبياته، ولكنْ بحكمة، حتى لا يظنَّ أو ينغرسَ في نفوسِ المسلمينَ وغيرهم أن المجتمعَ الإسلاميَّ مثاليٌّ ملائكيّ، بل تجدُ فيه الصالحَ والطالح، ولكنه يكونُ مجتمعًا متكاملاً ورائعًا آمنًا ومتكافلاً كلما كان قريبًا من دينِ الله ومطبِّقًا للأحكامَ الشرعية. وهذا يعني عدمَ توقُّفِ جهودِ العلماءِ والدعاةِ والقضاةِ والمصلحين في الدعوةِ والعملِ الإسلامي ومعالجةِ القضايا التي تهمُّ المسلمينَ أجمعين. فالحذرُ مطلوب، وإعدادُ القوةِ واجب، ومحاربةُ الفسادِ ومعاقبةُ المجرمينَ مستمرَّة...